الكوارث تظهر المعدن الحضارى للمصريين، والشدائد تزيد من تماسكهم، وقد أظهرت ثورة يناير كم التحضر فى هذا الشعب العظيم الذى علَّم الكون الحضارة منذ مشرق التاريخ وفجر الضمير، ومثلما أدهشنا الشباب فى هذه الثورة، أدهشتنا قطاعات أخرى من الشعب ومن ضمن هؤلاء الأطباء، فقد رسخ فى أذهان الناس «ستيريوتيب» أو نمط ذهنى محدد ومقولب عن الطبيب، ملخصه أنه رجل فى حاله ماشى جنب الحيط، موس مذاكرة، حفيظ، يرتدى نظارة طبية سميكة ويتلعثم فى الكلام.. إلخ، صورة كوميدية ساهم فيها الإعلام بنصيب كبير، جاءت الثورة لتغير هذه الصورة الذهنية ليكتشف الأطباء أنفسهم، ويقتدى كل منهم بجيفارا طبيب ثورة أمريكا اللاتينية.

الحربان العالميتان الأولى والثانية خلقتا علم الجراحة الحديث، كان لهما الفضل فى اختراع العمليات الكبرى والتعقيم وغيره من مهارات الجراحة، هذا يعود إلى كم الجروح والكسور والأشلاء التى خلفتها هذه الحروب والتى أجبرت الجراح على أن يطور أدواته، وكذلك وبصورة مصغرة كانت مظاهرات يناير خاصة يوم جمعة الغضب، فعلى سبيل المثال كان طبيب العيون هو من وجهة نظر زملائه من التخصصات المختلفة، هو الطبيب المستريح الذى لا يواجه طوارئ إلا فى النذر اليسير النادر، فوجئ هؤلاء تحت ضغط إصابات العيون الكارثية فى يومى 25 يناير و28 يناير واللذين كانت فيهما حالات كثيرة من انفجار وتصفية العين، فوجئوا بأنهم أمام حالات كثيرة وضغط كبير وألغاز طبية تحتاج إلى حلول عاجلة، ووجدوا أن تخصصاً مثل تجميل العين بعد الاستئصال على سبيل المثال بات تخصصاً مطلوباً وفاعلاً.

عندما أعلنت مبادرة «أطباء متضامنون» عبر قناة دريم بدأتها بنواة صغيرة من الأطباء، وأعترف بأن هذا كان خطأ تنظيمياً من ناحيتى نتيجة الاستعجال، ذلك لأننى تلقيت بعدها سيلاً من المكالمات والإيميلات من الأطباء العظام فى جميع التخصصات مما جعلنى نادماً على أننى لم أترو أكثر، ولكن عذرى هو حماسى وتعاطفى مع هؤلاء ممن صنعوا لنا الفجر ونسجوا لنا بدمائهم الثورة، القائمة عظمت وطالت وضمت الآلاف من أطباء مصر، ولذلك ولأغراض تنظيمية بحتة، سنوحد جهة الإرسال من خلال قناة دريم ومكتب العاشرة مساء إلى مؤسسات معينة كمؤسسة مصر الخير وجمعية الأورمان، القائمة التى وصلتنى من الأطباء ستكون موجودة عند هذه المؤسسات التى ستتحمل تكلفة المستشفيات بالكامل.

إنها مصر التى قال عنها الشاعر مظفر النواب «ولكن لمصر مواعيدها.. للصعيد مواعيده.. للرصاص مواعيده.. والنجوم هنا لا تعد.. وليس أمام البراكين فى لحظة الروع سد»!